يطرح يوفال نوح هراري رؤية نقدية عميقة حول التحولات الجذرية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في المشهد الإعلامي. هذه التحولات تشمل تعطيل وسائل الإعلام التقليدية، و سيطرته المتزايدة على انتباه البشر وتوجيههم.
في الماضي، كان الإعلام ساحة لنشوء قادة تاريخيين مثل لينين وموسوليني. انطلق هذان القائدان من مقاعد التحرير الصحفي ليصلا إلى قمة السلطة الديكتاتورية، حيث كان للمحرر الصحفي دور محوري في تشكيل الرأي العام وصناعة الأحداث. أما اليوم، فقد تغيرت معالم هذه الساحة بشكل جذري؛ إذ لم يعد للمحرر وجه أو اسم معروف. بل أصبح في كثير من الأحيان مجرد خوارزمية أو نظام ذكي يعمل في الخفاء، يحدد ما يُنشر وما يُحجب، ويوجه اهتمام الجمهور دون أن يدركوا من يقف خلف الستار.
يرى هراري أن الذكاء الاصطناعي قد تجاوز كونه مجرد أداة تقنية، ليصبح شبكة معلوماتية ضخمة تفرض إيقاعها على حياة الأفراد والمجتمعات. فالتدفق الهائل للمعلومات، وسرعة إنتاج وتوزيع المحتوى، جعلا من الصعب على الإنسان ممارسة التفكير النقدي أو التمييز بين الحقيقة والوهم. في هذا السياق، لم تعد وسائل الإعلام التقليدية قادرة على المنافسة، إذ باتت الخوارزميات الذكية قادرة على تحليل اهتمامات الجمهور وتخصيص المحتوى بدقة، بل وتوليد الأخبار والمقالات تلقائيًا، ما أدى إلى تراجع دور الصحفيين والمحررين البشريين لصالح أنظمة لا تحمل ملامح إنسانية ولا تخضع للمساءلة الأخلاقية أو المهنية.
ويحذر هراري من أن الذكاء الاصطناعي، رغم فوائده في تسريع العمليات الإعلامية وتخصيص المحتوى، يحمل في طياته مخاطر كبيرة تتعلق بالتضليل، وانتشار الأخبار الزائفة، وتكريس الهيمنة المعلوماتية. فمع تزايد الاعتماد على الخوارزميات، تصبح السيطرة على تدفق المعلومات بيد جهات محدودة، ما يفتح الباب أمام التلاعب بالرأي العام وتوجيهه نحو أهداف قد تكون بعيدة عن المصلحة العامة أو القيم الديمقراطية. ويزداد القلق حين نعلم أن هذه الأنظمة تفتقر إلى الحدس الإنساني والقدرة على الإبداع، بل تقتصر على تنفيذ برمجيات صُممت لتحقيق أهداف محددة دون اعتبار للأبعاد الأخلاقية أو الاجتماعية.
في هذا العالم الجديد، تصبح معركة الذكاء الاصطناعي معركة وجودية للبشرية، كما يصفها هراري. فإما أن ننجح في وضع ضوابط ومعايير تضمن بقاء الإنسان في موقع السيطرة، أو أن نتحول تدريجيًا إلى عبيد لهذه الشبكات الذكية التي لا تعرف الرحمة ولا تميز بين الصواب والخطأ. ويؤكد هراري أن أي مجتمع يتخلف عن مواكبة هذا التطور سيواجه مصير الحضارات القديمة التي عجزت عن التكيف مع التحولات الكبرى في عصرها.
إن اختفاء المحررين البشريين لصالح أنظمة الذكاء الاصطناعي يطرح تساؤلات حول مستقبل الإعلام ودوره في تشكيل وعي المجتمعات. ففي الماضي، كان المحرر شخصية معروفة، مسؤولة أمام المجتمع والتاريخ، أما اليوم مجرد كود برمجي مجهول الهوية، يوجه اهتمام الملايين دون أن يعرف أحد من يقف وراءه أو ما هي نواياه. وهكذا، كما يرى هراري، لم يعد خطر الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على تعطيل وسائل الإعلام، بل أصبح تهديدًا مباشرًا لحرية الإنسان وقدرته على التفكير المستقل وصناعة مستقبله بوعي ومسؤولية.