المعلم الآلي: هل تُختَزَل المدارس إلى فُسحةٍ للعب الأطفال بينما تَغزو الخوارزميات عُقولهم؟

أضيف بتاريخ 01/25/2025
مدونة المَقالاتيّ

في قرية نيجيرية نائية، اجتاز أطفال امتحاناتهم بعد عامين من التعلُّم باستخدام ذكاء اصطناعي، بنفس مستوى أقرانهم الذين تلقوا تعليمًا تقليديًا مع مدرسين بشريين — [وفقًا لتحليل نُشر على منصة 𝕏 بواسطة الباحث إيثان موليك، والذي سلّط الضوء على التجربة كمؤشرٍ على تسارع تحوُّل التعليم نحو النموذج الرقمي. هذه التجربة ليست مجرد نجاح تقني، بل إشارة لتحوّل جوهري: اقتراب تكلفة المعرفة من الصفر. لم تعد التكنولوجيا تهدد باختزال الزمن أو الجهد فحسب، بل تقتحم حصنًا ظلّ لقرون حكرًا على الأنظمة المؤسسية: التعليم. عندما يصبح بوسع خوارزمية، قابلة للتكرار بملايين النسخ بكلفة هامشية شبه منعدمة، أن تحلَّ محلَّ سنوات من الخبرة البشري في التدريس، فإن السؤال الجوهري لم يعد عن "الكيفية"، بل عن "اللماذا": لماذا نبقي على مدارس باهظة التكلفة، صفوف مزدحمة، وأنظمة تعليمية هرمة، إذا كان البديل أكثر فاعلية، وأرخص، وأقدر على الوصول إلى كل طفل في أي مكان؟  



المدارس، بهذا المنطق، قد تصبح فضاءات للتفاعل الاجتماعي فحسب، حيث يلتقي الأطفال ليتعلموا العمل الجماعي، أو ليمارسوا الأنشطة الإبداعية، أو ليكتسبوا المهارات العاطفية التي تعجز الآلات عن محاكاتها — على الأقل حتى الآن. أما التعلُّم المعرفي الصرف، من حل معادلات رياضية إلى استيعاب قواعد اللغات، فيمكن أن ينتقل بالكامل إلى عوالم رقمية تدار بالذكاء الاصطناعي، التي تتكيّف مع سرعة كل متعلم، ت diagnose أخطاءه في اللحظة، وتعيد صياغة المحتوى بما يناسب ثغراته الفردية. هنا، لن تكون المسألة مجرد توفير موارد، بل إعادة تعريف مفهوم "التعليم الجيد" ذاته، الذي طالما ارتبط بمدى توفر مدرسين متمرسين، أو بنية تحتية مكلفة.

لكن التجربة النيجيرية، رغم دلالتها، تترك بابًا مفتوحًا للجدل: فالتعليم فيها لم يكن خاليًا تمامًا من العنصر البشري. كان المدرسون حاضرين للإشراف، توجيه الانتباه، أو ببساطة لمنع الفوضى. هذا يطرح معضلة انتقالية: إلى أي مرحلة سنحتاج فيها إلى وجود بشري رمزي في الفصول؟ وهل ستبقى البشرية مصرة على ربط التعلُّم بوجود "المعلم" كرمز ثقافي، حتى لو تقلصت وظيفته إلى مجرد مراقب؟ التاريخ يشير إلى أن التحولات التكنولوجية الكبرى تبدأ دائمًا بمقاومة، ثم تأقلم، ثم اندثار التدريجي للعنصر البشري حين يصبح إرثًا زائدًا. فالمعلمون، مثل عمال المصانع بعد الثورة الصناعية، أو سائقي السيارات مع انتشار المركبات الذاتية القيادة، قد يواجهون مصيرًا مشابهًا: تحوُّلهم من ضرورة، إلى خيار، ثم إلى رمزية.

المعضلة الأعمق ليست في تقنية أو اقتصادية، بل أنثروبولوجية. فالمدارس، كفضاءات، لم تكن أبدًا مجرد أماكن لنقل المعرفة. لقد كانت مصانعَ للهوية الجماعية، حاضنات للعلاقات الاجتماعية، ومنصات لفرض الأيديولوجيات أو تكريس القيم. حين تتحول إلى مجرد "غرف اجتماعية"، فإننا لا نغيّر طريقة التعلُّم فقط، بل نعيد هندسة البنى الثقافية للمجتمعات. قد يكون هذا هو الثمن غير المرئي لجعل المعرفة مجانية: فبقدر ما تتحرر العقول من قيود الجغرافيا والطبقة، تتحرر أيضًا من السرديات المشتركة التي كانت تنسجها الأنظمة التعليمية الموحدة.

السؤال الأخير ليس عن "إمكانية" استبدال المدرسة التقليدية، بل عن "الزمن" الذي سيتوقف فيه الجدل حول هذه الإمكانية. كلما تسارع تطور الذكاء الاصطناعي، كلما تقلصت الحاجة إلى الوسيط البشري في التعليم. لكن هذا التسارع نفسه يضع البشرية أمام مفارقة: فالقدرة على تعلُّم كل شيء، مجانًا، وفي أي وقت، قد تنتج أجيالًا أكثر ذكاءً، لكنها أيضًا قد تنتج مجتمعاتٍ تتسع فيها الهوّة بين من يمتلكون المهارات الاجتماعية والنفسية للتعامل مع عالم معقد، ومن سيصبحون، رغم معرفتهم اللامحدودة، مسجونين داخل شاشات تعيد تعريف كل شيء إلا معنى أن تكون إنسانًا.