يميل الإنسان بشكل طبيعي إلى إدراك الفروق في العظمة والقيمة، ليس فقط بين الأشياء والأفعال، بل أيضاً بين البشر أنفسهم. وعندما نتأمل في أساس هذه الأحكام القيمية التي تصنف إنساناً بأنه أعظم من آخر في مجال معين، نجد أنفسنا أمام تساؤلات عميقة ومعقدة. فمن المهم أولاً أن نميز بين العظمة بمفهومها المعنوي والقوة المادية أو الفيزيائية
فالعظمة في سياق الأحكام القيمية تتجلى في التأثير النوعي على الآخرين، وخاصة العظمة الإنسانية التي تلهم الشعور بالقيم الأخلاقية العالمية في مواجهة التحديات المشتركة. نرى هذا جلياً في شخصيات تاريخية مثل سقراط، الذي ترك أثراً عميقاً في الفلسفة رغم قلة كتاباته، وكذلك في القادة الروحيين الذين دعوا إلى الأخلاق العالمية بدلاً من الانغلاق المجتمعي والحرب.
ويبرز سؤال أكثر تعقيداً عندما نواجه هذه النماذج العظيمة في الأخلاق والفن والموسيقى والأدب والرسم. هل الفرق بين العباقرة والأشخاص العاديين هو مجرد فرق في الدرجة، أم أنه قفزة نوعية؟ هل هناك تواصل تدريجي بين عزفنا البسيط على البيانو وموسيقى موتسارت الخالدة، أم أن هناك فجوة مطلقة بينهما؟
يرى منظرو العبقرية، مثل إيمانويل كانط في نقده لملكة الحكم، أن هناك فارقاً نوعياً وهوة عميقة بين العظمة العادية والعبقرية المطلقة. فالعبقري، وفقاً لكانط، يتجاوز حدود الطبيعة البشرية بتلقائية طبيعية دون حاجة للتفكير الواعي.
وبالمثل، فإن الإنسان العظيم في الأخلاق، كما يراه برغسون وباسكال، هو من يقاوم عيوب البشرية ويدرك بؤسها ويعمل ضدها بعفوية، دون الحاجة إلى التفكير المطول أو التبرير. فمنظرو العبقرية يؤكدون على هذا الانقطاع في عظمة البشر وأعمالهم وإنجازاتهم.
وهكذا تتجلى قمة العبقرية في أولئك الذين يجسدون العظمة الإنسانية من خلال تفرد أعمالهم وقوة تأثيرهم علينا جميعاً، دون تخطيط مسبق أو رغبة متعمدة في العظمة. إنها تلك القدرة الفريدة على تجاوز المألوف والارتقاء بالتجربة الإنسانية إلى آفاق جديدة، تاركة بصمة خالدة في تاريخ البشرية.