السّعادة عندي برتقالية، لون أرنب ميكانيكي ينط وأنا أتعقبه وأصرخ وورائي أمي وأبي يضحكان.
لا أدري إن كانت نعمة أم نقمة قدرتي على تذكّر أشياء حدثت أمامي وأنا ابن بضع سنوات، وبدقّة تجعلني أفترض أنها من تركيب ذاكرتي؛ لكن عرضي تلك التفاصيل على من هم أكبر مني وتأكيدهم مطابقتها والتقصي عن الموضوع جعلني أطمئن إلى أنها ليست بشارة نبوءة ولا ستة حمص، وأنني لست المُصلح الذي سيظهر في الحي الحسني على رأس مائة سنة وأن الأمر شائع بين الناس، بل ما ينبغي أن يثير الاستغراب هو ألا يتذكر الناس طفولتهم الأولى لأنهم يحجبونها عمدًا تحت أثقال من الصور المُعدّلة.
ولادة أخي الذي يصغرني بثلاثة أعوام مثلا، وتذكري للملاءة الخضراء الإسبانية الجديدة، وكانت عادة الناس أن يشتروا أغطية جديدة كل عام وأن تتحول القديمة إلى أفرشة، عندما كان تكييف الهواء فكرة من اختراعات مسلسل كوسموس. ما أكثر ما سألت أمي وجدّتي عن حوادث انطبعت في ذهني وكادت تُنسى، وكانتا تقولان إنه من غير الممكن أن أتذكرها وأن الذاكرة قد تخدعنا وتعيد صياغة تفاصيل سمعناها من غيرنا؛ ولكن عندما رويت لهن عن القابلة الجزائرية التي ولّدت نصف نساء البلد (تلك قصة أخرى ينبغي العودة إليها عن القابلات الجزائريات والأطباء الأجانب) ولمحات أخرى اختفت منذ زمن كانت أغلب العائلات لا تأخذ نساءها إلى المستشفيات لتضعن حملهن بل تأتي المستشفيات إليهن، حينها صدّقن أنني "باسم الله" مكشوف عني حجاب الماضي، وركّزن معي.
لكن هذا ولا شئ، الأدهى من ذلك أنني أذكر بالصور والألوان والأصوات، وأنا ما زلت أحبو ولا أكاد أمشي وابن عامين ربما، حين كان والدي في دورة تدريبية في الرباط، فاشترى لي لعبة ميكانيكية بديعة ومبهرة بمعايير تلك الأيام؛ وكان يقضي الساعات يعبئ الأرنب البرتقالي الضاحك بمفتاح مثل زمبلك ساعة الفروج، ثم يطلقه أمامي في كوريدور المنزل (كنا نسميه السطوان في مراكش) ويرقب ردات فعلي حين أتعقبه مرحًا مثل أرنب بشري وحين ألتقطه وأحاول تفكيكه وحين أملّ منه وأضربه عرض الحائط. الآن بعد أن صارت ذاكرتي كذاكرة أسماك من حجم كبير، فهمت أنني في مراحل لاحقة تصرفت مثل غيري، فشطبت تحت السجاد قسما كبيرا من الذكريات التي قد تتعبني وتنغص علي الحاضر. إلا ذكرى الأرنب البرتقالي المرح في دارنا الأولى وأنا أتعقبه وأصرخ فيه أن يقف وأبي وأمي معي أسعد الناس. تلك كانت الجنة.